فصل: مسألة الرجل يكون عليه زوجا خفاف كيف يمسح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة في كيفية الوضوء:

قال: فقلت لمالك: كيف الوضوء؟ أيدخل يديه في الإناء فيغسل وجهه؟ أم يدخل يده الواحدة فيفرغها ثم يتوضأ؟ قال: بل يدخل يديه في الإناء، قال ابن القاسم: في غسل اليد قبل أن يدخلها في الإناء فيفرغها ثم يتوضأ أحب إلي؛ لحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنه أفرغ على يده فغسل يديه ثلاثا»، قال ابن القاسم: وإن أفرغ على يده فغسلها وحدها، ثم أدخلها في الإناء أجزأ عنه، وأحب إلي الحديث.
قال محمد بن رشد: اختيار ابن القاسم هاهنا في غسل اليد قبل أن يدخلها في الإناء أن يفرغ على يده الواحدة فيغسلهما جميعا؛ اتباعا لظاهر الحديث، هو مثل ما تقدم لمالك في آخر سماع أشهب، ورأى واسعا أن يفرغ على يده فيغسلها وحدها، ثم يدخلها في الإناء فيفرغ بها على الأخرى، فيغسلها أيضا وحدها، وان كان اتباع ظاهر الحديث أحب إليه، وأما في بقية وضوئه فاختار مالك في هذه الرواية أن يدخل يديه جميعا في الإناء، فيغرف بهما لوجهه ثم لسائر أعضاء وضوئه، وظاهر قول ابن القاسم أن يفعل في سائر وضوئه كما يفعل في غسل يده ابتداء، يدخل يده الواحدة في الإناء، فيفرغ بها على الثانية، فيغسل وجهه ثم يفعل كذلك لسائر أعضاء وضوئه؛ لقوله: فيفرغها ثم يتوضأ، وهو أحسن من قول مالك؛ لأن ما يغرف من الماء بيده الواحدة يكفيه لغسل وجهه، وهو أمكن له في الوضوء من أن يغرف بيديه جميعا، ولعل الإناء الذي يتوضأ منه يصغر عن ذلك، وإنما يغرف بيديه جميعا في الغسل؛ لقوله في الحديث: «ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه» والله أعلم.

.مسألة الرجل يكون عليه زوجا خفاف كيف يمسح:

وسئل عمن كان عليه زوجا خفاف، قال: يمسح على الأعلى، قيل له: فإن نزع الزوج الأعلى؟ قال: فليمسح على الزوج الأسفل إذا نزع الأعلى، قيل: أرأيت إن نزع فردا من الزوج الأعلى؟ قال: يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحدها، ويصلي ويجزئه، وهو قول مالك، قال ابن القاسم: فإن هو لبس الخف التي نزع، ثم أحدث بعد ذلك مسح عليها.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن كان عليه زوجا خفاف أنه يمسح على الأعلى منها، هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها، وقد حكى بعض البغداديين أن قول مالك اختلف في إجازة المسح على خف فوق خف، ووجه المنع من ذلك أن السنة إنما جاءت في المسح على الخفين على القدمين، وهو رخصة فلا يقاس عليها، ووجه الإجازة قياس الخفين على القدمين لاستوائهما في المعنى.
وأما قوله إن نزع فردا من الزوج الأعلى: إنه يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحدها ويصلي، قد تقدم القول عليه والاختلاف فيه في آخر سماع أشهب، وأما قوله: فإن هو لبس الخف التي نزع ثم أحدث بعد ذلك مسح عليهما، فإنه خلاف قول سحنون في المسألة التي بعدها مثل قول مطرف فيها؛ لأنه لما نزع الخف التي مسح عليها من الرجل الواحدة انتقضت طهارته، فلما مسح على الأسفل صار قد طهر بعد أن مسح على الخف من الرجل الأخرى.

.مسألة الرجل يتوضأ ويغسل إحدى قدميه ويلبس خفه ثم يغسل الأخرى:

قيل لسحنون: ما تقول في رجل توضأ فلما فرغ من وضوئه ولم يبق عليه إلا غسل رجليه غسل إحداهما ثم لبس خفه، ثم غسل الأخرى، ثم لبس خفه الأخرى، فأحدث بعد ذلك، أيكون له أن يمسح؟ قال: لا يجوز له أن يمسح، قلت: لم؟ قال: من قبل أنه أدخل إحدى رجليه في الخف قبل استكمال الوضوء. قلت: أرأيت إن هو خلعهما قبل أن يحدث، ثم لبسهما بعد ذلك، فأحدث أيجوز له أن يمسح؟ قال: نعم إذا كان خلعهما ثم لبسهما قبل أن يحدث جاز له أن يمسح. قلت له: وكذلك لو غسل رجليه ثم لبس خفيه وقد نسي مسح رأسه ثم ذكر وقد جف وضوؤه فمسح برأسه، ثم أحدث بعد ذلك لم يكن له أن يمسح، قال: نعم، هي نظيرة ما سألت عنه، إلا أن يخلع خفيه بعد أن مسح برأسه ثم لبسهما قبل أن يحدث، فإنه يمسح.
وسئل مطرف بن عبد الله عن الرجل يتوضأ فإذا فرغ من جميع وضوئه ولم يبق عليه إلا غسل رجليه غسل رجله الواحدة، ولبس خفه قبل أن يغسل الأخرى، ثم غسل رجله الأخرى بعد ذلك ولبس خفه، ثم انتقض وضوؤه أيجوز له المسح على الخفين؟ قال: نعم، جائز له ذلك، ولا بأس عليه بالمسح على خفيه؛ لأنه لبس خفيه ووضوؤه تام، لا يضره أن يغسل الرجل الواحدة فيدخلها في الخف قبل أن يغسل الأخرى، وكل ذلك واحد.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة جار على اختلافهم في المتوضئ للصلاة؛ هل يطهر كل عضو من أعضائه ويرتفع الحدث عنه كلما غسله بتمام غسله، فإذا أكمل وضوءه ارتفع الحدث عنه جملة، وطهر للصلاة؟ أم لا يطهر شيء من أعضائه إلا بتمام الوضوء؟ فمن رأى أنه كلما غسل عضوا من أعضاء الوضوء طهر ذلك العضو، أجاز له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما بعد أن غسل رجليه للوضوء، وإن كان ذلك قبل أن يستكمل وضوءه؛ لأنه قد لبسهما عنده ورجلاه طاهرتان بطهر الوضوء على ما جاء في الحديث، وسواء أكمل وضوءه بعد ذلك أو لم يكمله، وهو قول ابن القاسم عن مالك في سماع موسى عنه في هذا الكتاب، ومن رأى أنه لا يطهر عضو من أعضاء المتوضئ إلا بتمام وضوئه لم يجز له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما قبل استكمال طهارته؛ لأنه ما لبسهما عنده إلا ورجلاه غير طاهرتين بطهر الوضوء، وسواء أكمل وضوءه بعد ذلك أو لم يكمله، وهو قول سحنون.
وجواز المسح أظهر على القول بأن كل عضو من أعضاء المتوضئ يطهر بتمام غسله؛ بدليل قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الحديث: «إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض؛ خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه» الحديث، وظاهر قول مطرف أنه لو لم يكمل وضوءه لما جاز له أن يمسح، ووجه قوله أن ما غسل المتوضئ من أعضائه يحكم له أنه قد طهر بتمام غسله إن أكمل وضوءه، ولم ينتقض قبل تمامه، فهي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يمسح على خفيه إلا أن يكون قد لبسهما بعد إكمال وضوئه. والثاني: أنه يمسح عليهما إن لبسهما بعد أن غسل رجليه للوضوء، وإن لم يتم وضوءه بعد ذلك. والثالث: أنه لا يمسح عليهما إلا أن يتم وضوءه ذلك. وقال. ابن لبابة: إن الاختلاف في هذه المسألة إنما هو من أجل أن طهارة القدمين بطهر الوضوء ليس بلازم، إذ لم يثبت عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، ولا عن عمر بن الخطاب في القدمين أن تكونا طاهرتين بطهر الوضوء، وإنما الذي ثبت عنهما طاهرتان لا أكثر.

.مسألة الرجل يسيل عليه ماء العسكر فيسأل أهله فيقولون إنه طاهر:

وسئل ابن القاسم، عن الرجل يسيل عليه ماء العسكر، فيسأل أهله فيقولون: إنه طاهر، قال: يصدقهم، إلا أن يكونوا نصارى، فلا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يصدقهم، وإن لم يعرف عدالتهم؛ لأنه محمول على الطهارة على ما مضى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من قوله: أراه في سعة ما لم يستقين بنجس، فسؤالهم مستحب، وليس بواجب، ولو قالوا له لما سألهم: هو نجس؛ لوجب عليه أن يصدقهم؛ لأنهم مقرون على أنفسهم بما يلزمهم في ذلك من الحكم، فالظن يغلب على صدقهم.
ولو كان محمولا على النجاسة لما وجب أن يصدقهم في أنه طاهر إلا أن يعرف عدالتهم، مثل أن يكون العسكر للنصارى فيسأل من كان قاعدا معهم من المسلمين، إذ لا يقبل الخبر حتى يعلم عدالة نقلته، كما لا تقبل شهادة الشهود حتى تعرف عدالتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وقول عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده، لا يوسر رجل في الإسلام بغير العدول. وأما إن عرف أنهم غير عدول، فلا إشكال في أنه لا يقبل قولهم؛ لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل في حضر ومعه بئر وهو إن عالجها طلعت عليه الشمس أيتيمم:

ومن كتاب أوله عبد استأذن سيده في تدبير جاريته:
وقال: إذا كان الرجل في حضر ومعه بئر إلا أن رشاءها بعيد، وهو إن عالجها طلعت عليه الشمس، قال: يعالجها وإن طلعت عليه الشمس، وقد قال: يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد قال: يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس، هو على القول بأن الصبح ليس له وقت ضروري؛ وأما على القول بأن له وقت ضرورة وهو الإسفار، فإنما يعالجها ما لم يخف أن يسفر؛ لأن الذي لا يجد الماء ينتقل إلى التيمم إذا خشي أن يفوته وقت الاختيار، والاختلاف في هذه المسألة إنما هو على اختلافهم في الحاضر العادم للماء، هل هو من أهل التيمم أم لا؟ فقوله: يعالجهما وإن طلعت الشمس على القول بأنه ليس من أهل التيمم، وقوله: يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس على القول بأنه من أهل التيمم.
وفي المدونة لمالك قول ثالث: أنه يعيد بعد الوقت إذا قدر على الماء، ويتخرج في المسألة قول رابع وهو: أن تسقط عنه الصلاة إذا طلعت الشمس عليه قبل أن يصل إلى الماء. وقد اختلف في الذي يكون معه الماء إلا أنه إن توضأ به فاته الوقت، وإن تيمم أدرك الوقت، فقيل: إنه يتوضأ به على كل حال، وإن فاته الوقت؛ لأنه واجد للماء فليس من أهل التيمم، وقيل: إن له أن يتيمم إذا خاف ذهاب الوقت، والأمر محتمل، فانظر ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة المستحاضة إذا جاءها أيام الدم التي كانت تحيض فيهن فرأت دما كثيرا تنكره:

ومن كتاب العرية:
وسئل ابن القاسم عن المستحاضة إذا جاءها أيام الدم التي كانت تحيض فيهن، فرأت دما كثيرا تنكره، فأقامت قدر الأيام التي كانت تحيض، ثم رجعت إلى الدم الذي كانت تصلي به، أو تكون رأت ذلك الدم يوما أو يومين، ثم رجعت إلى الدم الذي كانت تعرفه، هل ترى أن تستظهر بثلاثة أيام أم لا؟ فقال ابن القاسم: إذا رأت دما تنكره لا تشك أنه دم حيضة، فإنها تترك الصلاة، فإذا طال بها الدم الذي تستنكر استظهرت بثلاثة أيام، وإن كان عاودها دم الاستحاضة بعد أيام حيضتها صلت بغير استظهار.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنها تستظهر في الدمين جميعا، وهو قول ابن الماجشون وأصبغ، وقيل: إنها لا تستظهر في الدمين جميعا، قاله في كتاب ابن المواز، فوجه قوله في الرواية: إنها لا تستظهر إن عاودها دم الاستحاضة هو أنها كانت تصلي به قبل أن ترى الدم الذي استنكرته، وكانت به في حكم الطاهر وجب إذا رجعت إليه أن تكون فيه أيضا في حكم الطاهر فلا تستظهر. ووجه قول ابن الماجشون وأصبغ: إنها تستظهر وإن عاودها دم الاستحاضة أن هذا دم اتصل بدم الحيض، فوجب أن تستظهر منه كما لو لم تتقدم لها استحاضة.
وأما ما في كتاب ابن المواز من أنها لا تستظهر وإن تمادى بها الدم الذي استنكرت، فلا وجه له من النظر إلا الاحتياط للصلاة؛ مراعاة لقول من لا يرى الاستظهار أصلا، ولقول مالك أيضا في كتاب ابن المواز إن المستحاضة عدتها سنة، وإن كانت تميز ما بين الدمين؛ لأن الاستحاضة ريبة. فإذا كانت الرواية مبنية على هذا من الاحتياط فيجب إذا تركت الاستظهار فصلت وصامت أن تقضي الصيام، وكذلك المعتدة على هذا القياس. وقد قيل: إنها تتمادى في الدمين جميعا إلى خمسة عشر يوما، وهو قول مطرف.

.مسألة المستحاضة لم تر الدم في كل يوم إلا في وقت صلاة واحدة ثم انقطع ذلك عنها:

ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه:
قلت: أرأيت إن لم تر الدم في كل يوم إلا في وقت صلاة واحدة، ثم انقطع ذلك عنها في غيرها من الصلوات، أتعد ذلك اليوم يوما تاما؟ وكيف إن رأت الدم صلاة الظهر، فتركت الصلاة، ثم رأت الطهر قبل العصر أتعيد الصلاة؟ قال ابن القاسم: إن رأته وإن كان ساعة، فإنها تعد ذلك يوما، وأما الظهر فإنها تعيدها إذا رأت الطهر نهارا.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أن الحيضة إذا انقطعت ولم يكن بين الدمين من الأيام ما يكون طهرا فاصلا، فإنها تلفق أيام الدم وتعد اليوم الذي رأت فيه الدم من أيام الدم، وإن لم تره إلا ساعة أو لمعة، وإنما اختلف هل تلفق أيام الطهر، فالمشهور أنها تلغيها ولا تلفقها، وقد قيل: إنها تلفقها إن كانت مثل أيام الحيض أو أكثر منها، فتكون في أيام الدم حائضا، وفي أيام الطهر طاهرا أبدا، وهو قول محمد بن مسلمة.
وإن انقطع عنها وقد بقي من النهار قدر خمس ركعات قبل غروب الشمس أو أكثر صلت الظهر والعصر، وإن كان لم يبق من النهار إلا أربع ركعات فأقل صلت العصر، وسقطت عنها صلاة الظهر، واختلف إذا انقطع عنها لمقدار أربع ركعات من الليل قبل طلوع الفجر، فقيل: إنه يجب عليها صلاة المغرب والعشاء، وهو مذهب ابن القاسم، وقيل: إنه لا يجب عليها إلا صلاة العشاء الآخرة، وهو مذهب ابن الماجشون، وأما قوله: فإنها تعيدها، فإنه تجاوز في اللفظ؛ لأن حقيقة الإعادة إنما هو لما قد فعل، وهي لم تصلها بعد، وقد جاء مثل هذا في القرآن، قال الله عز وجل: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، وقال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

.مسألة المرأة ترى الدم عند وضوئها:

قال ابن القاسم: سألت مالكا عن المرأة ترى الدم عند وضوئها، فقال مالك: تشد وتصلي، وليس عليها غسل، ولا تترك الصلاة كما تصنع المستحاضة في أول ما يصيبها.
قال محمد بن رشد: يريد ولا تترك الصلاة في أول ما يصيبها كما لا تتركها المستحاضة. وقوله: وليس عليها غسل، يبين قول مالك في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، ويرد تأويل ابن أبي زيد عليه، وقد تكلمنا هناك على وجه قول مالك بما أغنى عن رده، والمعنى في هذه المسألة أنه حكم لها بحكم المستحاضة لما كان الدم يتكرر عليها عند كل وضوء؛ لأن معنى قوله: ترى الدم عند وضوئها، أي تراه عند كل وضوء، فإذا قامت ذهب ذلك عنها على ما قاله في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم.
ولا إشكال في أن الدم إذا تمادى بها على هذه الصفة يكون حكمها حكم المستحاضة، وحكم المستنكحة أيضا لتكرر الدم عليها في أوقات معلومة، وإنما الذي يشكل من المسألة قوله فيها ولا غسل عليها في أول ما يصيبها؛ لأن ما تراه المرأة من الدم ابتداء هو محمول على أنه حيض حتى يعلم أنه استحاضة، فقوله: إنه لا غسل عليها في أول ما يصيبها معناه إذا كان أول ما يصيبها ذلك في مدة الاستحاضة، مثل أن تكون قد رأت الدم خمسة عشر يوما، ثم جعلت تراه عند كل وضوء، فوجب ألا يجب عليها غسل عند أول ما تراه؛ لأنه استحاضة، إذ لا يمكن إضافته إلى الدم الأول، إذ قد تمادى بها خمسة عشر يوما، ولا أن تجعله حيضة ثانية؛ إذ لا فاصل بينهما من الأيام. وكذلك كل ما تكرر على هذه الصفة إلا أن ترى دما تنكره، وتميز أنه دم حيضة على ما قال في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. ومعنى ذلك إذا رأت هذا الدم الذي تنكره بعد أن مضى من الأيام ما يكون طهرا فاصلا من بعد انقضاء الخمسة عشر يوما، وهو الوقت الذي حكم فيه باستحاضتها، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير يتيمم بجدار:

ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده:
وسئل ابن القاسم عن تفسير يتيمم بجدار، فقال: تفسيره من ضرورة، بمنزلة المريض لا يكون عنده أحد يوضئه ولا ييممه، فيمد يده إلى الجدار بجنبه إذا كان جدارا أسود، يريد أن يكون الجدار من طوب نيء.
قال محمد بن رشد: وجه هذا السؤال أنه سأله عن تفسير ما روي: «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلم عليه رجل في سكة من السكك، وقد خرج من بول أو غائط، فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فتيمم»، فقال تفسيره من ضرورة، أي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ذلك إلا من ضرورة، إذ لم يصل إلى الصعيد الطيب؛ لكونه في السكك والطرق التي لا تنفك عن النجاسات، وخشي أن يفوته الرد الذي قد أوجبه الله تعالى بقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] إن أخره إلى أن يجد الماء فيتوضأ، إذ لا يكون ردا إلا بالقرب، وذلك أن ذكر الله تعالى على غير طهارة كان في أول الإسلام ممنوعا ثم نسخ، فأراد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تيمم الجدار من ضرورة، وهي ما ذكرنا، كما يتيممه المريض من ضرورة إذا لم يكن عنده أحد يوضئه أو ييممه.
وقوله إذا كان الجدار أسود، يريد أن لا يكون قد كسي بجص أو جير، فإن كان كذلك لم يجز التيمم عليه، قاله في كتاب ابن المواز، وهو صحيح، وقوله: من طوب نيء صحيح؛ لأنه إن كان آجرا مطبوخا لم يجز التيمم عليه، وقد قال ابن حبيب: إن المريض يتيمم الجدار آجرا كان أو صخرا أو حجارة أو حصبا إذا لم يجد من يناوله ترابا، ولا من ينقله إلى موضع الصعيد، وهو بعيد إلا أن يريد آجرا غير مطبوخ، والله أعلم، وبه التوفيق.

.مسألة مريض لم يجد لذة النساء يلمس امرأته ولم يجد له لذة أترى عليه وضوءا:

وسئل عن مريض دنف لم يجد لذة النساء ولا انبساطا، أراد أن يجرب نفسه، فوضع يده على ذراع امرأته ينظر هل يحرك ذلك منه شيئا ولم يجد له لذة، أترى عليه وضوءا؟ قال: نعم، قد وجدها في قلبه حين وضعها لذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا ظاهر ما في المدونة أن اللمس مع القصد إلى اللذة يوجب الوضوء، وإن لم يلتذ، ووجه ذلك اتباع ظاهر القرآن في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] لم يشرط وجود لذة. وقوله: قد وجدها في قلبه حين وضعها لذلك؛ لا معنى له؛ لأن اللذة إذا لم تكن كائنة عن اللمس وموجودة به، فلا اعتبار بها إلا على ما ذهب إليه ابن بكير من أن وجود اللذة مع التذكار دون لمس يوجب الوضوء، ويحتمل أن يكون أراد بقوله: قد وجدها بقلبه، أي قد أرادها وقصدها حين وضعها؛ فتستقيم الرواية على هذا التأويل. وأما إن وجد اللذة بلمسه فلا اختلاف في المذهب أن الوضوء عليه واجب سواء قصدها أو لم يقصدها. وأما إن لم يجدها بلمسه ولا قصدها به، فلا وضوء عليه باتفاق، وبالله التوفيق.

.مسألة المتيمم يصيب رجله بول:

ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب إلى أجل:
قال ابن القاسم من قول مالك في المتيمم يصيب رجله بول: إنه يمسحه بالتراب، قال ابن القاسم: ويعيد الصلاة في الوقت، مثل الرجل يصلي في الثوب الدنس، ولا يجد غيره؛ أنه يعيد في الوقت إن وجد الماء، ومثل المسافر يكون متوضئا ثم يصيب رجله رجيع أو بول، ولا يجد ماء يغسله به أنه يمسحه بالتراب ثم يصلي، يريد أنه يعيد في الوقت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن مسح قدمه بالتراب لا يرفع حكم النجاسة عنه، وإن أزال عينها عند مالك رَحِمَهُ اللَّهُ وجميع أصحابه، خلافا لأبي حنيفة وغيره في قوله: إن كل ما أزال العين رفع الحكم. والوقت في هذا للظهر والعصر إلى الغروب، وللمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر، وللصبح إلى طلوع الشمس، قاله ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن المواز، وله فيه في المصلي بثوب نجس ناسيا أن الوقت في ذلك للظهر والعصر الاصفرار، وللصبح إلى الإسفار، فكأنه ذهب إلى التفرقة بين المسألتين. ويحتمل أن يكون اختلافا من القول، فتأتي في المسألة ثلاثة أقوال على ما ذكرنا في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ومعنى هذا في بول بني آدم الذي يتفق على نجاسته، وتنفك منه الطرق ولو أصاب رجله في مشيه بول الدواب، لم يجب عليه إعادة إذا مسحه وصله به على أحد قولي مالك في المدونة وغيرها.
ولو أصاب رجله بول بني آدم وهو غير متوضئ، وليس معه من الماء إلا قدر ما يتوضأ به لغسله وتيمم على ما حكاه ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك في المسافر يتوضأ، ويمسح على خفيه فتصيبهما نجاسة ولا ماء معه أنه يخلعهما ويتيمم، قال: لأنه قد أرخص في الصلاة بالتيمم ولم يرخص في الصلاة بالنجاسة، وفي ذلك نظر، فتدبره، وبالله التوفيق.

.مسألة يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة:

ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق:
قال: وقال مالك: لا بأس أن يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة، قال ابن القاسم: ولا بأس أن يسقى البقر الإناث والغنم الماء الذي وقعت فيه الميتة. قيل لسحنون: فهل تكون أبوال الأنعام إذا شربت من ماء غير طاهر طاهرة؟ فقال: لا وهي نجس، وقال ابن نافع: لا يسقى بالماء النجس كل ما يؤكل لحمه، ولا يسقى به البقل إلا أن يغلى بعد ذلك بماء ليس بنجس.
قال محمد بن رشد: قول مالك: لا بأس أن يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة، هو مثل ما في المدونة، يريد ويكون العسل طاهرا، وكذلك لبن الماشية التي تسقى الماء النجس، طاهر عند ابن القاسم بدليل تخصيصه الإناث في هذه الرواية بخلاف أبوالها، وسحنون يقول: إن ألبانها نجسة كأبوالها، وأشهب يرى ألبانها وأبوالها طاهرة. وقول ابن القاسم في تفرقته بين البول واللبن هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب. وأما قول ابن نافع: لا يسقى بالماء النجس كل ما يؤكل لحمه، فيحتمل أن يكون كره ذلك من أجل الاختلاف في نجاسة ألبانها، فقد كره ذلك أيضا مالك في رواية ابن وهب عنه لهذه العلة، والله أعلم؛ إذ لا بأس بأكل لحومها، وإن شربت ماء نجسا، فقد قال ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الضحايا في الجدي يرضع الخنزيرة: أحب إلي أن لا يذبح حتى يذهب ما في بطنه، ولو ذبح مكانه لم أر به بأسا.
ويحتمل أن يكون ابن نافع كره ذلك مخافة أن يذبحه من لا يعلم قبل أن يذهب ما في جوفه من ذلك الماء النجس على ما استحب ابن القاسم من أن لا يذبح الجدي إذا رضع الخنزيرة حتى يذهب ما في جوفه من أجل نجاسته، وما يلزمه من غسله والتوقي منه. وأما قول ابن نافع: إن البقل لا يسقى بالماء النجس إلا أن يغلى بعد ذلك بماء ليس بنجس؛ فلا وجه له، إذ لو نجس بسقيه بالماء النجس لكانت ذاته نجسة، ولما طهر بتغليته بعد ذلك بماء طاهر، وبالله التوفيق.

.مسألة جس امرأته للذة ثم نسي فصلى ولم يتوضأ:

قال ابن القاسم: من جس امرأته للذة، ثم نسي فصلى ولم يتوضأ؛ أنه يعيد في الوقت وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الملامسة عند مالك وجميع أصحابه في قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ما دون الجماع، فإذا جس الرجل امرأته فالتذ؛ فقد انتقض وضوؤه عند مالك وجميع أصحابه، وإن لم يلتذ بذلك فعلى قولين، وقد مضى ذلك في رسم أوصى، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يستنجي بحجر واحد ثم يتوضأ فينسى أن يستنجي بالماء فيصلي ولم يذكر:

ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار:
وسئل عن الرجل يستنجي بحجر واحد، ثم يتوضأ فينسى أن يستنجي بالماء فيصلي ولم يذكر، فقال: إن كان أنقى فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يتوضأ بعد وضوئه ثم يخرج منه ريح فينتقض وضوؤه:

وسألت ابن القاسم: عن الرجل يتوضأ بعد وضوئه، ثم يخرج منه ريح فينتقض وضوؤه، هل ترى عليه غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء؟ فقال: أحب إلي أن يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، ولما سأله هاهنا عن غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء، فقال: أحب إلي أن يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء، دل على أن الاختيار عنده في الوضوء أن يدخل يده الواحدة في الإناء فيفرغ بها على الأخرى ويتوضأ، ولا يدخل يديه جميعا في الإناء، فيغرف بهما لوجهه ولسائر أعضاء وضوئه مثل ظاهر قوله في أول رسم نَقَدَهَا نَقْدَها من هذا السماع خلاف اختيار مالك، وقد بينا ذلك هناك، وبالله التوفيق.